لقرابة أسبوعين وحتى تاريخ كتابة هذه الكلمات تعيش جباليا ومخيمها حملة احتلالية مسعورة أسمع وأرى القنابل والقصف والرصاص الذي لم يتوقف ننام عليه ونستيقظ فزعين عليه، هذا ونحن بعيدين عنه أكثر من كيلومترين فكيف بآلاف العوائل ممن يسقط على رؤوسهم.
دأب جيش الاحتلال في حالات مثل هذه إذا أراد مهاجمة منطقة ما فإنه يبدأ دون سابق إنذار وبشكل فجائي باختراق حياة الناس ومعاشهم بقصف شديد من الطائرات والمدفعية على الشوارع والبيوت لمدة ساعة او ساعتين يرتقى خلالها الكثير من الشهداء من الأطفال والنساء والمارة وكذا الجرحى ويكون هذا بمثابة إعلان عن بدء عمليته العسكرية وعدوانه بشكل فعلي يلي ذلك وليس قبله إعلان رسمي من الناطقين باسمه ببدء العملية والطلب من السكان الاخلاء، هذا ما يحدث فعلاً وهو ما حدث في جباليا أيضاً وفي كل منطقة دخلها من قبل، اعلان بالقنابل والبارود والدماء عن العدوان.
آلاف الناس العوائل يفرون هلعاً لا يلوون على شئ يخرجون حافي الأقدام يجرون في الشوراع هرباً من الموت يلجأون إلى أقرب مكان بعيدا عن الموت، في مشهد درامي مأساوي للأطفال والناس يشقون الطرقات والحسرة تملأ قلوبهم والعبرة تملأ أعينهم تركوا وراءهم طعامهم وشرابهم وملبسهم وخرجوا حفاة عراة جوعى، وغالباً ما يبيتون لياليهم الأولى في الشوارع والعراء ريثما يجدوا مكاناً يأويهم، ثم تبدأ معاناتهم في البحث عن بقية العائلة وتدبير أكل للأطفال وفراش ينامون عليه ولا حول ولا قوة الا بالله. أما آلاف الناس والعوائل ممن تبقى فكلٌ بقي لأسبابه منهم من ملَّ الترحال والهروب والبهدلة ويرغب بالموت إن قُدّر ففي بيته أو حارته، ومنهم من أقعده والده المسن الذي لا يقوى على الهرب والحركة، ومنهم من بقي لمبدأ رفض الانصياع للاحتلال وترك بيته والنزوح، وكل هؤلاء سيعيشون أياماً وليالي طوال من المعاناة والحصار والقتل، فقبل أن تتقدم آليات الاحتلال تبدأ حملة قصف تمهيدي واسعة ومرعبة من الطيران والمدفعية بشكل عشوائي أما المدفعية فتتشظى وتطال شظاياها كل من يتحرك وكل من لا يستتر جيداً فتقطع الأطراف وتظل تنزف حتى الموت، وأما الطائرات فتقصف عدداً من البيوت بشكل كامل لإحداث أكبر قدر من الصدمة والرعب والخراب وغالباً بدون تمييز أو سؤال هل يوجد فيها ناس أم لا، وغالباً ما تدفن أطنان الركام عشرات العوائل أسفلها وهذا شئ رائج ذائع كثير الحدوث هذه الأيام، وبالطبع مع هذا التقدم يتم تثبيت جميع الطرقات والمفترقات بالطيران المسير الذي يقصف ويطلق النار على كل متحرك وحتى طواقم الدفاع المدني والاسعاف يتم قصفها وقتل كوادرها وهذا شائع أيضا، وعليه يمسي كل من استشهد منطرحاً في مصرعه لا يجد من يكفنه أو يحسن تكريمه، وكذا من دفنوا أحياء أسفل الركام سيتركون هكذا حتى تنقطع أصواتهم ورجاءهم ويفارقون الحياة، وكذا الجرحى سيظلون ينزفون أياماً وليالي أو ساعات حتى الموت. وهكذا سيعيش كل من بقي كوابيس انتظار الموت في أي لحظة، وإن دخل عليهم الجيش فسيقتل رجالهم أو يعتقلهم وسيخرج من بقي مشياً إلى الشوارع ويُطلب منهم النزوح مشياً إلى الجنوب. هذا وسيعيش كل من بقي أيضاً في صراع يومي مع توفير المياه للشرب وغالباً ما يتعذر ذلك لوجود الجيش أو سيقتل من يتحرك لذلك وإن رصد العدو حركة من منزل ما ربما بادر إلى قصفه، وهكذا يبيت الناس جوعى وعطشى خائفين يترقبون. هذا وإن انسحب الجيش فستتكشف لك صور أخرى من الفظاعات والجرائم والشهداء بالعشرات والدمار الواسع واعدامه لسبل الحياة، ولم نتحدث بعد عن المستشفيات إن وجدت وظروفها وظروف من فيها من قلة الكوادر وشح الأدوات والكهرباء والماء والطعام.

ولتتخيلوا ما يحدث إليكم ما حدث في الساعات الماضية، حيث هاجم جيش الاحتلال بالمدفعية الطوابق العليا من مستشفى الإندونيسي واستهدف النازحين أمامه وأطلق النار باتجاه المباني والساحات، رغم وجود عشرات المرضى والجرحى والطواقم الطبية، وجاءت هذه الجريمة بعد مجزرة ارتكبها الاحتلال بعد تدميره منزلاً لعائلة الحواجري فوق ساكنيه مما أدى لاستشهاد 30 فلسطينياً 20 منهم من السيدات، واستشهد 4 فلسطينيين وأصيب عدد آخر بعد قصف الاحتلال منزلاً في منطقة التوبة بالمخيم، وقصفت المدفعية مشروع بيت لاهيا ومنطقة الصفطاوي وأبراج الشيخ زايد ومنطقة قليبو ومخيم جباليا وواصلت الدبابات إطلاق النار على المنازل ومراكز الإيواء، وقال مسؤول في وزارة الصحة إن جثامين الشهداء منتشرة في شوارع مخيم جباليا مع استمرار المجازر وعدم قدرة الطواقم الطبية على الوصول إليها، ولم يكتف الاحتلال بالقصف الجوي والمدفعي بل هدم بالجرافات منزلاً فوق ساكنيه بعد محاصرتهم في شمال غزة، ونقلت شبكة الجزيرة عن مسؤول في وزارة الصحة أن عددا من المدنيين قضوا جوعا وعطشا داخل منازل في جباليا بسبب الحصار المستمر، ونشر الصحفي أنس الشريف على حسابه صورة لجثث متكدسة في الممرات وعلق عليها: ”المشهد الآن في جباليا: العائلات التي رفضت التهجير تتعرض للإبادة الجماعية، قصف الطائرات الحربية عشرات المنازل المأهولة بالسكان في محيط مفترق نصار بحي تل الزعتر شرقي للمخيم، ما تسبب بوقوع ١٠٠ إنسان بين شهيد وجريح، جثامين الأطهار ملقاة في كل مكان، تضيق بمن انتشل منهم المستشفيات والشوارع والطرقات والأكثر لا يزالون تحت الركام“، وكشف يوم أمس عن "إنجاز" جديد لجيش الاحتلال في سياق حرب الإبادة الجماعية بعد أن أصاب طفلاً شمال غزة بنيران طائراته ثم أطلق النار على كل من حاول إنقاذه أو إسعافه، ناهيك عن كل ما يحدث في باقي مناطق القطاع من مجازر لا تقل عن هذه ولم أذكرها، بإمكانك الرجوع للأخبار بهذا التاريخ ١٩ اكتوبر ٢٠٢٤ وترى بنفسك مأساة الغزيين في سائر الانحاء، حدث كل ذلك وأكثر في يوم وليلة ومثله أمس وأول امس وأول أول أمس أكثر من سنة كاملة لم يتوقف فيها القتل لحظة.

هذه قصص حقيقية حدثت مع أهلي وتحدث اليوم في جباليا والشمال، ليست من نسج الخيال ولكن الواقع أفظع من الخيال بمراحل، ولا حول ولا قوة الا بالله.

الشهادات (لم تسجل أي شهادة بعد)

كن أول من يسجل شهادته على هذه الحادثة.